Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

لم تكن الآمال التي عُقدت على قانون تشريع الحشيشة سوى وهم متراكم أعطته ماكينزي صبغةً اقتصادية ودفعت باتجاهه السفيرة الأميركية بتصريحٍ علنيٍ من عين التينة.

حنين رباح، علي حمية

القنب الهندي: لـ'التحشيش'" بدل الاستخدام الطبي"

"

أعاد حريق الهرمل الأخير تأكيد المؤكد في بلاد بعلبك. فأهل السهل الذين سارعوا للاستغاثة بالدولة لم يُفاجؤوا "بإدارتها الأذن الصمّاء" جرياً على عادتها في التعاطي مع هذا القضاء. أعادت الدولةُ الرسمية تذكير أهالي بعلبك الهرمل بأنهم في ذيل قائمة المناطق المنسية المهملة، كما أعاد باقي مواطني الدولة تذكيرهم بأنهم أدنى درجةً في المواطنية، وأن الكناغر المصابة بحرائق أستراليا وكاتدرائية نوتردام في فرنسا أولى بالتعاطف وجمع التبرعات من أحراج "اللزاب" المعمًرة في جرود الهرمل!.

اعتادت الدولة على نسيان بعلبك الهرمل وتركها لمصيرها، فحرمتها من أبسط حقوقها ودفعت أهلها نحو "أي بديل ممكن". لتعود وتلومهم على خياراتهم وليُلقيَ عليهم الساسة موشحات الانتماء والوطنية ويمنّوا عليهم بوعود الزراعات البديلة. "تشريع الحشيشة" نفسه بات مُخدراً يستعمل لإشاعة جوٍّ من التفاؤل الكاذب بالحل السحري لمشاكل البقاع وللإقتصاد الوطني المتهالك.

أقر المجلس النيابي في نيسان/أبريل الماضي مشروع القانون الخاص بالقنب الهندي مع شبه إجماعٍ نيابيٍ خرقه رفض كتلة الوفاء للمقاومة التي ينتمي إليها معظم نواب بعلبك – الهرمل. مفارقة تقودنا إلى جملةٍ من التساؤلات والمخاوف التي لا إيضاح لها، أولها: القلق من إنفلات سوق المخدرات وتحولها إلى سلعة رائجة تُفاقم الوضع وتزيده تدهوراً، خصوصاً أن التشريع يكسر الحاجز النفسي الذي صنعته المقاومة خلال السنوات العشرين الماضية، والذي حصر زراعة المخدرات في فئة محدودة.

ثانيها: الخشية من التزايد المفاجئ والسريع في حجم المساحة المزروعة بالحشيشة مقابل انخفاض مساحة تلك المزروعة بالخضار والحبوب، مما يؤدي لانخفاض سعر الحشيشة وارتفاع سعر الخضار (وفق قاعدة العرض والطلب البسيطة)، وبالتالي إلى أزمة في تأمين المواد الغذائية الأساسية، وتعريض الأمن الغذائي اللبناني لمزيد من الأخطار.

أما الخشية الكبرى فتكمن في الخوف من الفساد وسوء الإدارة والاستثمار السياسي لتغيير هوية المنطقة السياسية، والأمثلة بارزة للعيان. فالدولة التي تعد بتنظيم محصول الحشيشة هي نفسها العاجزة عن تصريف موسم البطاطا المكدس اليوم، أو وضع رزنامة زراعية واضحة تحمي المزارعين والمواطنين، وهي نفسها التي حولت مواسم التبغ إلى استثمار سياسي واحتكار لصالح فئة دون أخرى. (لم يغب بعدُ عن ذاكرة البقاعيين كيف تم توزيع "رخص الدخان" في المنطقة على المحسوبيات ما أجبر الكثير من المزارعين على العمل كأجراء عند من يملك الرخص التي تتركز بيد مجموعة محدودة).

اليوم، يجد أهل بعلبك أنفسهم أمام "ريجي" جديدة، ذات ارتباط شكلي بوزارة الصحة، من خلال إعطاء هيئةٍ تابعةٍ للوزارة صلاحيات استثنائية من التشريع والرقابة والترخيص وتحديد مناطق الزراعة ووضع الشروط والعقوبات على المخالفين.

في دولةِ المفارقات، رُفض العفو العام عن المطلوبين بتهم حيازة وتجارة الحشيشة، وشُرعت زراعة الحشيشة بقانون بات مادةً للتندر عند البقاعيين.

في دولة المفارقات، تعجز الدولة كل عام عن تطبيق خطة تنظيم سير لطريق ضهر البيدر في الشتاء، كما تعجز عن استحداثِ نفقٍ يجنب أهالي المنطقة الانقطاع عن العالم لأسابيع سنوياً، فكيف سيثق الناس بأنها ستتمكن من تطبيق قانون بالغ الحساسية بحجم قانون تشريع الحشيشة؟ وهم محقّون فعلاً. إذ وَضع القانونُ المزارعينَ في آخرلائحة المستفيدين، وأعطى الشركات الأولوية بترخيص استيراد بذور وشتول القنب/الحشيشة، وإنشاء المشاتل، وإنشاء مراكز الأبحاث والمختبرات بالإضافة إلى التصنيع والتصدير.

لقد غيّب قانون التشريع مصلحة المزارعين، أصحاب الحقول الصغيرة، لمصلحة الشركات. تعطي المادة 18 من القانون الترخيص للشركات اللبنانية المجازة لصناعة الأدوية من قبل وزارة الصحة العامة وللشركات الصناعية اللبنانية المجازة من وزارة الصناعة، كما يعطي الشركات الأجنبية المتخصصة بهذا المجال الحق في الزراعة والتصنيع والتصدير. وأخيراً يعطي القانون للمزارع أو المالك، أو المستأجر الحق، بشرط أساسي هو أن لا يكون محكوماً بمفهوم القانون 673/98، ما يعني حكماً حرمان عددٍ لا يستهان به من المزارعين من التراخيص في ظل استمرار ملاحقة المزراعين المطلوبين من قبل سن قانون التشريع.

لقد أحكم القانون الطوق حول عنق المزارع وحجّم أرباحه التي تضاءلت أصلاً مع تغير سعر صرف الدولار وتدنت لتصل إلى ما دون الـ 120$ للدونم الواحد بعدما كانت تصل إلى 1000$ في قمة فترة الملاحقة وتلف المحاصيل. وإذا ما أضفنا شروط الترخيص المسبقة والالتزامات المتفرعة عنها، ستتراجع أرباح المزارعين وسيتحولون إلى مجرد موظفين، لا لصالح الدولة، بل لصالح جيوب بعض كبار المتنفذين الذين اعتادوا الوقوف في الظل خلف الشركات الخاصة التي تلتزم القطاعات المربحة في البلد.

في نقاش القانون:

غلب الطابع الشعبوي الحديث عن قانون التشريع، فيما غابت الدراسات العلمية التي تضع أطر تطبيقه، هل الحشيشة اللبنانية صالحة للاستخدام الطبي؟ أجاب المجلس الوطني للبحوث العلمية بدراسة كان نتيجتها أن القنب الهندي المزروع في البقاع يفيد للاستهلاك البشري أكثر منه للاستعمال الطبي. لن يحتوي هذا القنب على المادة الفعالة CBD (cannabidiol) بالمستوى المطلوب لانتاج "زيت الحشيشة" كما يقال (ما يعني استيراداً للبذور الصالحة للاستعمال الطبي وزيادة الكلفة على المزارع بشكل جنوني، إذ يُقدر سعر البذرة بـ6$). في الآن عينه غابت الدراسات الاقتصادية الوافية فلا يوجد سوى بضع أوراق عن أهمية وجدوى تشريع زراعة الحشيشة مقدمة من قبل دائرة الأبحاث في وزارة الزراعة لا ترقى إلى مستوى البحث العلمي. كما غابت الخطط الاقتصادية والدراسات الاجتماعية المترتبة، باستثناء ما ورد في خطة شركة ماكينزي الدولية للاستشارات الإدارية والمالية عام 2018، حول زراعة الحشيش لصناعة الأدوية المقدّر مردودها بمليار دولار سنوياً.

في المقابل، تظهر دراسة النماذج المطبقة في الدول المشرّعة للزراعة، والتي اعتمدت القوننة وألغت الصفة الجرمية، بحسب مركز ترشيد السياسات التابع للجامعة الأميركية في بيروت، نتائج مختلفة. إذ تفترض الدراسة أن على الدولة تحديد الكمية التي سيجري انتاجها سنوياً وحجم السوق، والأمراض التي يمكن معالجتها باستخدام منتجات الحشيشة، كما والجرائم المرتبطة بها ومعدلاتها في لبنان، بالتوازي مع تحديد أنواع النباتات التي تستخدم في المجال الطبي، والعوامل التي تحدد السعر.

إن كل ما يحكى عن قدرة الحشيشة على انتشال لبنان من أزمته الاقتصادية ما هو إلا تخرصات لذر الرماد في العيون، وإبعاد الأنظار عن الحلول الحقيقية التي تتنافى مع السياسة الاقتصادية القائمة في البلد منذ التسعينات. فمردود زراعة الحشيشة لن يعدو كونه مورداً متواضعاً يضاف إلى موارد الخزينة اللبنانية، بالمقارنة مع الأثر السلبي لقوننة هذه الزراعة. فلماذا يُعمل على تكريس نبتة الحشيشة كرمز للبقاع ولماذا كُرست شتلة التبغ في سنوات مضت كأيقونة للجنوب؟ ولصالح من لا يُرمز لهاتين المنطقتين إلا بنبتة مسرطنة وأخرى مخدرة!.

لم تكن الآمال التي عُقدت على قانون تشريع الحشيشة سوى وهم متراكم أعطته ماكينزي صبغةً اقتصادية ودفعت باتجاهه السفيرة الأميركية بتصريحٍ علنيٍ من عين التينة. فلو تجاوزنا جميع الآثار السلبية للتشريع، مرة أخرى سيضعنا مردود هذه الزراعة المحدود مجدداً أمام ضرورة مراجعة السياسات الاقتصادية القائمة منذ التسعينات، كما والتوجه نحو بدائل حقيقية للنهوض بالإقتصاد الوطني والخروج من الأزمات التي تتوالد وتتكاثر منذ نشأة الكيان اللبناني.

 

"

كاتبان في صحيفة الخندق